في ذات مساء انفجر موقد كؤل (غَوْل) كان على مائدة الطعام وكانت ابنتي الصغيرة على كرسيها بالقرب من تلك المائدة، فحضرت مسرعًا للغرفة على أثر الضجة فوجدت طفلتي في حالة خوف شديد وذعر، واجمة ساكنة لا تبدي حراكًا، فأدركت أنها في شبه صدمة عصبية وقد راعني منظرها وشحوب لونها فأسرعت بنقل الموقد إلى بلاط الغرفة ثم حولت اهتمامي نحو ابنتي خشية أن يكون هذا الحادث سببًا في تعرضها لنوبات عصبية في مستقبل حياتها فحملتها وهي صامتة مختنقة بالتأثر لا تقوى على الكلام وأمرت الحاضرين بأن يتظاهروا بالسرور والتهليل طربًا حول الموقد المشتعل في أثناء إطفائه وذلك بغية أن أحول فكرها من حالة الرعب إلى حالة السرور، فكان ذلك وهدأ روعها نوعًا ولكنها كانت خائرة القوى ومالت برأسها على ذراعي كما لو كانت في سكرة النعاس ولكن عينيها ظلتا مفتوحتين وشاهدت سوادهما يغيب بين لحظة وأخرى تحت الأجفان كأنها في حلم ثم تنبهت في الحال إلى أنها وقعت في غيبوبة تشبه غيبوبة التنويم (المغناطيسي) في أدواره الأولى كل الشبه، ولاحظت عليها قابلية شديدة للتأثر بالإيحاء واستعدادًا عظيمًا للإقناع فألفيت الفرصة سانحة لإجراء بعض التجارب واختبار مبلغ تأثر قواها العقلية وهي في هذه الحالة النفسية، فبدأت تجاربي بإصدار بعض الأوامر إليها قاصدًا بها تحويل انتباهها أولاً من حالة الخوف والرعب إلى حالة الطمأنينة والسرور فأمرتها بأن تبتسم فابتسمت مع شيء من التكلف وما لبثت قليلاً حتى انقلب ابتسامها المصطنع انشراحًا حقيقيًا بتأثير الإيحاء المستمر، ثم بدأت الشق الثاني من التجارب بإصدار عدة أوامر إليها متتالية تعمدت التناقض في بعضها لأختبر مبلغ خضوعها واستعداد عقلها للتأثر بالإيحاء Suggestion فأطاعتني فيها جميعًا طاعة عمياء رغم ما عهدته فيها من صلابة وعناد، فلو قلت لها قطبي جبينك قطبته وظلت مقطبة الجبين، وإن قلت لها ابتسمي ابتسمت، وإن أمرتها أن لا تدع أحدًا يقبلها وأردت تقبيلها صدتني عنها بكلتا يديها، وإن أفهمتها أن الأمر لا يشملني ألفيتها في الحال تجذب رأسي إليها لكي أقبلها وإن طلبت منها أن تغمض عينيها أطاعت وإن قلت لها افتحيهما فعلت وهلم جرا إلى أن ختمت تجاربي ببعض النصائح النافعة وأمرتها في آخر الأمر أن تنام نومًا هادئًا مستغرقًا فلم تمضِ برهة وجيزة حتى نامت فوضعتها في فراشها ولكنها في منتصف الليل اعترتها نوبة (تيقظ نومي)Somnumbulism فألفيتها جالسة في سريرها تهذي وتتكلم وتنادي بصوت عالٍ وهي غارقة في النوم فوقفت على مقربة من مخدعها وأمرتها أن تنام وتكف عن الكلام وكررت الأمر ثلاث مرات متتاليات فأطاعت ونامت نومًا هادئًا مستغرقًا حتى الصباح.
خرجت من هذه المشاهدة مقتنعًا كل الاقتناع باحتمال وقوع الإنسان بتأثير الخوف في شبه حالة تنويم وأن هذه التجربة التافهة التي أجريتها مع طفلة لم تتجاوز الحول الثالث من عمرها يمكن أن نعتبرها نموذجًا صغيرًا يدلنا على ما لحالة الرعب والفزع من التأثير في العقل البشري وكيف ينتقل ذلك العقل ويتحول من حالة الصلابة والعناد المعروفة عن ابنتي الصغيرة إلى حالة الخضوع التام والطاعة العمياء لكل ما يلقى من الأوامر أو لكل ما يبث إليها بطريق الإيحاء، فالتجربة على تفاهتها في الظاهر تدلنا على مبلغ خطورة الأمر في الواقع وما يترتب عليه من النتائج الجسام في الحياة العملية للإنسان كما يظهر للقارئ من المثال الآتي وهو حادث واقعي حصل في الولايات المتحدة منذ عهد غير بعيد رواه الأستاذ هوجو منستر برج أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد بأمريكا في كتابه (فوق منصة الشهادة) On the Witness Stand وملخصه (أن فتاة قُتلت وعثر رجال الشرطة على جثتها في الطريق ووقعت الشبهة على شاب كان له بها اتصال قديم فاستدعاه المحققون إلى غرفة التحقيق حيث توجد جثة الفتاة وكشفوا له عنها الغطاء، فبدا وجهها الشاحب المخضب بالدماء وباغتوه على الفور بسؤالهم عنها (أين رأيتها) فخر الفتى جاثيًا على ركبتيه، ثم وضع كفيه على وجهه ليحجب رؤيتها عن ناظريه، غير أن المحققين جذبوه بغلظة نحو جثة الفتاة، وأمروه أن يضع يمناه فوق جبينها البارد، فأطاع كرهًا وقسرًا، ولكنه لم يلبث أن سحب يده عن بدنها مقشعرًا، وسرعان ما جروه عنوة إليها، وأرغموه أن يضع يده ثانيةً عليها، وفي خلال ذلك أطلقوا عليه السؤال تلو السؤال حتى أصابوا من عزمه مقتلاً ومن إرادته مصرعًا فخر صريعًا منهوك القوى واعترف بقتلها في الحال، وهو شارد الفكر مضطرب البال، وأطاع المحققين في كل ما طلبوا منه الإقرار به بل وابتدع له الأسباب وانتحل المعاذير وأضاف من بنات أفكاره إلى الوقائع بعض التفاصيل وبناءً على هذا الإقرار الصريح قدم الفتى إلى المحاكمة، وبعد ذلك شاءت الأقدار أن يكشف الغطاء عن سر إقراره الغريب وظهرت لهيئة القضاء براءته بأجلى بيان إذا اتضح أنه لم يعترف إلا بتأثير صدمة عصبية أصابته من جراء الرعب الشديد، تركته في شبه حالة تنويم، فأضحى عقله المضطرب سهل الاقتناع شديد التأثر بفعل الإيحاء والتغرير، فاعترف متأثرًا بما أوحي به إليه في خلال الاستجواب واتهم نفسه ظلمًا معتقدًا في نفسه الإجرام وهو بريء).
لا شك أن الخوف معروف علمًا وعملاً بأنه من أقوى العوامل التي تؤثر في العقل السليم وتوقعه أحيانًا في شبه حالة (تنويم) فيصبح شديد التأثر بالإيحاء وذلك بسبب ما يترتب على الحادث المزعج من اجتذاب انتباه الشخص إليه وحصر ذهنه فيه فتشل الإرادة وتصبح في حالة خضوع تام وهو ما يمكن أن تعلل به رؤية الشخص الخائف المنزعج لكثير من الخيالات والأشباح الوهمية، فإن صور بعض المرئيات تتجسم أمام عينيه فتبدو له كأنها عفاريت أو مردة أو شياطين أو وحوش ضارية أو أفاعٍ أو ثعابين وغير ذلك مما يكون متسلطًا على خيال الشخص المنزعج من الأوهام وما توحي به أشكال المرئيات وأوضاعها من الصور حتى لو كانت هذه ناقصة أكملها الفكر المتأثر المضطرب بما شحنت به الذاكرة من الخزعبلات وما تزوده العقل قديمًا من الخرافات فتبدو له كأنها صور حقيقية (وهو نوع من أنواع الإيحاء الذاتي) Auto – Suggestion نظرًا لما يحدثه الخوف من تهيئة العقل وجعله في حالة استعداد تام وقابلية شديدة لهذه الظاهرة النفسية وما ذلك إلا بسبب انحصار انتباه الشخص في الشبح المخيف وما أصدق المثل العامي (اللي يخاف من العفريت يطلع له) فإنه حقيقة دلت عليها التجربة وأيدها العلم الصحيح، فالعفريت يظهر لمن يعتقد وجوده ويخشاه ولكن ظهوره لا يكون إلا في مخيلة الخائف دون سواه.
وما ظاهرة النوم المغناطيسي إلا مثلاً مجسمًا لحالة حصر الذهن وتركيز الانتباه ولكنه بدل أن يكون ذلك الحصر في الحادث المخيف الذي يقع عرضًا فإنه يكون عند التنويم في أداة المنوم المعروفة باسم الهبنوسكوب – Hypnoscope (وهي لوح صغير من الأبنوس بيضاوي الشكل له مقبض خشبي وفي وسط اللوح مرآة صغيرة مقعرة يحصر فيها راغب النوم بصره عند التنويم)، وقد يستعاض عنها بعيني المنوم أو إحدى أصابعه أو جسم لامع يحدق فيه راغب النوم بصره ويحصر فيه ذهنه ببطء حتى إذا طال الزمن ضعفت الإرادة تدريجيًا إلى أن يبطل مفعولها فينام الشخص نومًا صناعيًا يصبح العقل معه عرضة للتأثر بالإيحاء، ويخضع لسلطان الوهم وتأثير المنوم خضوعًا تامًا، فإذا أطعمه حنظلاً وأفهمه أنه شهد بدا له شهيًا حلو المذاق، وإذا أعطاه ملحًا وقال له هذا سكر خاله كذلك واستطعمه واستطابه وأسالت لعابه شدة حلاوته وأن سقاه ماء قراحًا وأفهمه أنه مسهل فعل به فعل المسهلات وإن سقاه ألذ شراب وأفهمه أنه ملح أجاج مجته نفسه ونفرت منه، وهلم جرا، ولقد أصبح الآن لا خلاف بين علماء النفس من حيث تعليل هذه الظواهر علميًا إذ هم مجمعون على أنها نتيجة لازمة الحصر الانتباه وتركيزه تركيزًا شديدًا في واقعة واحدة أو شيء معين مع ما يتبع ذلك من شل الإرادة وإخضاعها، وإني أنقل هنا آراء نخبة من خيرة العلماء في هذا الصدد نقلاً عن العلامة بييرجانيه – Pierre Janet في كتابه العلاج النفسي – Psychological Healing جزء أول من النسخة المترجمة إلى الإنجليزية بمعرفة الأستاذين إيدين وسيداربول – Eden & Cedar Paul طبعة سنة 1925 صـ 299 سطر 3 ونصها:
Quite a number of observers have insisted upon the importence of concentration of attention in the initial stages of hypnosis, and have been well aware that hypnssis did not occur if the subject would not or could not fix his attention in this way, Heidenhain، J. P. Durand, braid, stanley Hall, Schneider, L. Fisher, and more recently Münsterberg, have laid much stress on the importence of (over – attention) in the induction of hypnosis.
وتعريب ذلك (من رأي كثير من العلماء أن حصر الانتباه وتركيزه من ألزم الأمور في أحداث التنويم ويعتقدون أنه من المعتذر تنويم من لا يقوى على حصر انتباهه أو يأبى ذلك تعمدًا، فكل من هايدنهين، وديوران، وبرايد، وستانلي هول، وشنيدر، وفيشر، وفي العهد الأخير منستر برج، يعلقون أهمية عظمى على ما لحصر الانتباه من الأثر في إحداث التنويم)، ثم ذكر العلامة بييرجانيه بعد ذلك في نفس الصفحة سطر 24 رأى الأستاذ هاك تيوك ونصه:
I regard it as impossible to enclude the act of attention from any of the physical processes that are employed to develop suggestibility. After a time, the will is exaused, and becomes paralysed, then the involuntary Action occurs, whether consiously or unconsiously.
وتعريبه (إن الإنسان لا يسعه أن يغض النظر عن ظاهرة الانتباه كإحدى الوسائل الطبيعية التي تستخدم في تنمية قابلية العقل للإيحاء وجعله شديد التأثر به حيث لا تلبث الإرادة بعد فترة من الزمن أن يعتريها الإعياء والكلل وتشل وظيفتها وعندئذٍ يتسع ميدان العمل للأفعال غير الإرادية سواء في ذلك الصادرة عن شعور وإدراك أو الصادرة بدونهما).
ولقد ظن العلامة جانيه أن القدرة على حصر الانتباه والإرادة شيئان مختلفان وانحاز إلى الرأي الأخير وهو رأي هاك تيوك معتبرًا أن ضعف الإرادة هو أهم العوامل التي تسبب ظواهر التنويم وتهيء العقل للتأثر وأنه في ذلك أبعد أثرًا من حصر الانتباه، ولكن ما سماه هو اختلافًا في الرأي ليس في الواقع إلا اختلافًا ظاهريًا أكثر منه حقيقيًا، وشكليًا أكثر منه جوهريًا، فإن القدرة على حصر الانتباه وقوة الإرادة يكادان يكونان أمرًا واحدًا لا فرق بينهما، فالرأيان كلاهما صحيح وإن صح أن يسمى ذلك اختلافًا في الرأي كما يقول الأستاذ جانيه فإني أنقل هنا رأي شيخ العلماء وليم جيمس فإن رأيه يعد بمثابة رسول سلام أو وثيقة صلح ووئام بين الرأيين السابقين حيث قال في المجلد الثاني من كتابه (مبادئ علم النفس) – Principles of Psychology صحيفة 562 سطر 19 تحت باب الإرادة ما نصه:
Effort of attention is thus the essential phenomenon of will
ومعناه (إن القدرة على حصر الانتباه هي أقوى مظاهر الإرادة) – ثم قال في الصفحة 564 سطر 12 ما نصه:
The strain of attention is the fundamental act of will
وتعريبه أن تركيز الانتباه (أي حصر الذهن) هو الوظيفة الأساسية للإرادة.
ولقد وافقه في هذا العلامة وليم ماكدوجال W. McDougall وهو من أكبر ثقات العالم في العلوم النفسية في الوقت الحاضر، انظر مؤلفه المعروف باسم (نهضة الأمم واضمحلالها) – National Welfare & National Decay صحيفة 84 سطر 12 وكذا التعليق الذي بالهامش، وانظر أيضًا في هذا الصدد رأي الدكتور (مكسويل جارنتس – Maxwell Garnetts) في كتابه المسمى (التربية وحضارة العالم)Education and World Citizenship.
فإذا ما تقرر أن القدرة على حصر الانتباه والإرادة هما أمر واحد وأسماء لظاهرة نفسية واحدة أمكننا أن ندرك بغير صعوبة بسبب ما يكون للمواقف الخطيرة من الأثر العظيم في النفوس فإن لهذه المواقف خاصية اجتذاب انتباه الشخص إليها والاستئثار به واستغراق كل اهتمامه وجهوده الفكرية فيصبح عاجزًا عن تحويل ذهنه أو زحزحته عنها وحصره باهتمام في أي أمر آخر عداها وكلما حاول توجيه انتباهه لأمر لا يلبث أن يتحول عنه رغم أنفه وضد إرادته نحو ذلك الحادث الجلل الذي يشغل باله وبجذب فكره جذبًا شديدًا كما تجذب قطعة الحديد إبرة المغناطيس وبذلك يفقد الشخص كل ما له من قدرة على حصر انتباهه باختياره ويفقد تبعًا لذلك ما له من إرادة.
فالإرادة هي الحارس الأمين الذي يحمي العقل من تسرب الأفكار الأجنبية وولوجها إلى العقل فإذا ما نام ذلك الحارس أو خضع لسلطان مؤثر من المؤثرات الشديدة ووقع في أسره تسللت الأوهام والتخيلات إلى العقل وأحدقت بالمواهب الفكرية الأخرى وأوقعتها في شراكها، والخوف من أقوى العوامل التي تؤثر في الإرادة تأثيرًا شديدًا فيضعفها أو يشل مفعولها ومن ذلك يتضح لنا سبب شدة تأثر الشخص الخائف والمنزعج بالإيحاء سواء الذاتي منه أو الخارجي ولهذا يكون من السهل التغرير به وحمله على الإقرار.
فالإقرار الكاذب ليس بدعة جديدة ولا هو من مخترعات الخيال بل حقيقة معروفة قديمًا وحديثًا لكل من خبر القضاء ومارسه إنما يجب لبحث الموضوع علميًا التمييز بين نوعين من الإقرار، أحدهما أن يكون المقر عالمًا بكذب إقراره، والنوع الثاني أن يكون المقر معتقدًا في نفسه صحة الإقرار.
فالنوع الأول أسبابه كثيرة متنوعة معروفة لا تحتاج إلى طول شرح أو بيان وأهمها الإقرار المأخوذ تحت تأثير التعذيب والألم الجثماني إذ يعترف المتهم لمجرد التخلص من الألم والعذاب وكذلك الإقرار الاختياري الذي يقوم به الشخص متطوعًا لافتداء غيره وتقديم نفسه ضحية وهو كثير الوقوع خصوصًا في الجرائم الصغرى كالمخالفات وجنح المضاربات وغيرها حيث يتقدم الشخص أمام القضاء معترفًا عن نفسه كذبًا باقترافه الجرم فداءً لسيده أو لولي من أولياء نعمته أو بعض ذوي قرباه، ومن بين العوامل التي تدفع المتهمين إلى الإقرار الكاذب التغرير والتضليل والوعود التي لا يقصد منها سوى الخدعة وكذا التهديد والوعيد وغيرهما مما يكون شديد الأثر في نفس المتهم نظرًا لما تكون عليه حالته النفسية من الضعف الشديد في أثناء الاتهام وما أصبح عليه عقله من الحيرة والارتباك وضعف الإرادة، كذلك اليأس والقنوط من الخلاص قد يدفعان بعض الناس إلى الإقرار بسبب تحرج المركز كما لو اتهم الشخص بجريمة خطيرة وأساء عن نفسه الدفاع فأصبح موقفه دقيقًا أو قامت حوله الشبه والظنون واعتقد خطأ أو صوابًا أن الدلائل عليه قوية تكفي لإدانته فيحمله اليأس من النجاة إلى الاعتراف أملاً في الرحمة، فقد حدث مرة أن اتهم أخوان بقتل صهرًا لهما على أثر اختفائه من القرية بغتة وكانت لسوء الحظ الدلائل عليهما قوية واجتمعت حولهما مجموعة من القرائن السيئة فلم يجدا مناصًا من الإقرار بالقتل بقصد تغيير الوقائع من قتل عمد مع سبق إصرار إلى قتل عمد بغير سبق إصرار وأقرا أنهما قتلاه عقب شجار قام بينهما وبينه وأذريا رفاته بعد إحراقها فلم يبقيا لها على أثر ولكنه لم تمضِ ستة شهور من تاريخ الحكم عليهما حتى عاد صهرهما إلى القرية حيًا.
أما النوع الثاني من الإقرار وهو ما يعتقد صاحبه صحة إقراره ويتهم نفسه ظلمًا وهو بريء فهو أخطر حالات الإقرار الكاذب وأدقها موقفًا لأنه قد يتعذر على غير الخبير المحنك كشفه، وأهم أسبابه ضعف الإرادة بسبب حصر انتباه الشخص في نقطة واحدة كما يقع للشخص الخائف المنزعج أو النائم نومًا مغناطيسيًا، فالخوف أو الرعب يحدث في النفس حالة تشبه حالة التنويم في كثير من الوجوه كما أن من شأنه أن يحدث في الأعصاب المضطربة صدمة قد تبلغ من شدتها أن تحدث تفككًا في قوى العقل وانحلالاً في الروابط الفكرية فتتبعثر الذكريات ويتخيل نظامها وتشل الإرادة ويفقد المرء ملكة التمييز فيعتقد العقل الخيالات والأوهام ويخالها حقائق سواء كان ذلك بطريق الإيحاء الذاتي أم بما يوحي إليه من جانب غيره فإذا نبتت في العقل فكرة خاصة أو بثت إليه بتأثير خارجي اعتنقها الإنسان وكون حولها من بنات أفكاره مجموعة تناسبها يختارها من بين ذكرياته المجزأة فتتكون له شخصية جديدة فوق أطلال شخصيته القديمة المتهدمة وهو ما يسمى على حسب الاصطلاح العلمي (بالانفصال العقلي) – Dissociation of Mind، ومما لا جدال فيه الآن طبقًا لأحدث النظريات النفسية أن هناك اتصالاً وثيقًا بين الخوف والهستريا والتنويم، فإن النوبات الهستيرية لا تخرج عن كونها نوعًا من أنواع التنويم الذاتي، وترجع أسبابها إلى وقوع حوادث مزعجة يتعرض لها الإنسان وخصوصًا في سن الطفولة حين تكون الإرادة على درجة من الضعف لا تقوى معها على طرد الأوهام وجمع شتات الفكر ولم شعثه بعد تفككه على أثر الصدمة التي يحدثها الخوف.
وظاهرة الانفصال العقلي تارة تكون مرضية كما في أمراض الملانخوليا والنوارستانيا والهستريا وغيرها وتارة تكون عرضية على أثر حلول نكبة أو كارثة عظيمة أو وقوع الشخص في حالة رعب شديد وفزع أو في حزن مفرط أو في ورطة كبرى أو انفعال نفسي شديد أو على أثر تعرض الإنسان لبعض الأمراض والحميات التي تؤثر في المجموع العصبي وتارة تكون صناعية بطريق التنويم المغناطيسي، أو بتعاطي بعض المخدرات والسموم أو باستخدام أشعة الضوء القوية وهي طريقة شيطانية قد يلجأ إليها بعض المحققين لحمل المتهمين على الإقرار متغافلين عما يلحق بهم من الأضرار ويتعرضون له من الأخطار بسبب ما تحدثه صدمة الأشعة الشديدة من إنهاك المجموع العصبي وإجهاد المخ وإيقاع المتهم في حالة تنويم أو حالة انفصال عقلي فيصبح شديد التأثر بالإيحاء، فإذا بثت إليه فكرة الإجرام اعتقدها في نفسه واعترف بارتكابه الجرم ولو كان بريئًا.
وإني أنقل هنا نبذة صغيرة من كتاب (التنويم) النظري والعملي للأستاذ بول ماران ليقف منه القارئ على مبلغ تأثير الأشعة الضوئية في العقل السليم وإيقاعه في حالة تنويم وها هي ذي بنصها كما وردت بالصفحة نمرة (75) في معرض الكلام على طرائق التنويم.
Au lieu d’impressionner la vue d’une façon douce et prolongée، on peut déterminer sur ce sens une impression brusque et intense, Chacun sait que l’éclair produit. Parfois une catalepsie spontanée chez certains individus. Le même effet peut être artificiellement provoqué en envoyant subitement sur le visage du sujet un jet de lumiére électrique ou oxhydriqne, ou encore à l’aide de ce qu’on appelle la lampe à magnésium, instrument qui perment de régler et de projeter dans une direction voulue l’éclat aveuglant de cette substance.
وتعريبها (إنه بدلاً من اتباع طريقة التأثير برفق على الإبصار مع طول الزمن يمكن استخدام مؤثر قوي سريع الفعل، ولا يخفي على أحد ما للأشعة الضوئية من خاصية إحداث الكاتالبسيا، (وهي إحدى ظواهر التنويم التي يكون فيها الجسم متصلبًا فاقدًا للحس والحركة)، فهذه الظاهرة يمكن إحداثها صناعيًا بأن تسلط بغتة على العينين أشعة قوية من مصباح كهربائي أو من مصباح غاز الأكسيهدوجين أو من مصباح المغنزيوم ذي الجهاز المنظم لما ينبعث منه من الأشعة القوية الباهرة للبصر من حيث حركتها واتجاهها).
غير أنه اتفقت كلمة أطباء التنويم على تجنب استخدام هذه الوسيلة التي يلجأ إليها بعض المنومين لإخضاع فريق من الأشخاص ذوي الصلابة والعناد وإكراههم على النوم رغم إرادتهم لما يترتب على ذلك من الاضطرابات العصبية التي قد تؤدي إلى نوبات صرع بل ربما أدت إلى نوبات جنون.
ولكي يقف القارئ على ما لأشعة الضوء من العلاقة بالإقرار الكاذب وما تحدثه من ظواهر الانفصال العقلي وبالأخص إذا ما صادفت عقلاً مضطربًا جازعًا وأعصابًا مضعضعة فإني أنقل إليه حادثًا واقعيًا وقع في مدينة تشيكاجو بالولايات المتحدة رواه الأستاذ منستر برج في مؤلفه السابق الإشارة إليه صحيفة 75……، وملخصه أن فتاة من فتيات تشيكاجو قتلت في يوم 12 يناير سنة 1906 وألقيت جثتها على كوم سماد بأحد الأجران، وكان يقطن على مقربة من هذا الجرن فتى اتصف بالسذاجة وحسن الطوية لدرجة تقرب من البله وكان يشتغل مع أبيه في النجارة وفي يوم الحادث المشؤوم خرج الغلام إلى الجرن يتفقد حصان أبيه فقاده سوء الطالع إلى حيث توجد جثة الفتاة فوجدها ملقاة على وجهها فوق كوم السماد فعاد إدراجه إلى المنزل وبلغ أباه بما رأى وما كان من هذا إلا أن بلغ الشرطة بالأمر فحضر بعض رجالها لضبط الواقعة وإجراء التحقيق فاتضح لهم من فحص الجثة أن المرأة قتلت بعد أن سلبت نقودها ومحفظة يدها وقفازاها ووجدوا سلكًا من النحاس ملفوفًا حول عنقها لفًا محكمًا وكان غطاء رأسها ملقى تحت قدميها ولم يشاهدوا بالجثة آثارًا تدل على الاغتصاب وبينما كان المحققون يفحصون الأماكن المجاورة إذ وقعت أنظارهم على الفتى منزويًا في ناحية والرعب آخذ منه كل مأخذ فبدا لهم من شحوب وجهه أنه مشغول الفكر مضطرب البال وكأنه لم ينم طول ليله فاشتبهوا في أمره في الحال وألقوا القبض عليه احتياطيًا لأجل التحقيق، ولما بدءوا في استجوابه ازداد اضطرابه فازدادت شبهتهم فيه ولكنه في بادئ الأمر كان منكرًا وثبت على إنكاره حينًا من الزمن فلجأ المحققون معه إلى استخدام وسائل الشدة والغلظة لحمله على الإقرار فلم يلبث الفتى طويلاً حتى اعترف فجأة تحت تأثير الضغط بعد الإنكار واستمر مصرًا كذلك على إقراره في جميع أدوار التحقيق ولم يقف عند حد الإقرار مجردًا بل زاد عليه من مخترعات خياله بعض التفاصيل وابتكر رواية للقتل تتضمن أنه كان دعا الفتاة للنزهة معه في يوم الحادث عند منتصف الساعة السابعة مساءً ولما أصبحا في خلوة حاول اغتصابها فأبت وحاولت الفرار فلم يمكنها وأمسك بمعصميها ثم غاب عن رشده ولا يدري ماذا فعل بها….، وإلى غير ذلك من التفاصيل، وأخذ الفتى بإقراره (والإقرار سلطان الأدلة كما يقولون)، وحوكم بمقتضاه وحكم عليه بالإعدام.
وصلت تفاصيل هذا الحادث في حينه إلى الأستاذ منستر برج في تقرير مطول من الدكتور (كريستيزون – Dr. Christion) الأخصائي في الأمراض العقلية ليبدي منستر برج رأيه فيه باعتباره عالمًا من علماء النفس فبعد أن فحص التقرير بعث برأيه للدكتور كريستنزون في خطاب يقول فيه بكذب الإقرار وبراءة الفتى مما أقر به وأن الإقرار صدر منه وهو في حالة (انفصال عقلي) وقد اتصل خبر هذا الخطاب بإحدى كبريات الجرائد فنشرته وكان سببًا في إثارة ضجة صحفية كبرى في وجه الأستاذ منستر برج وانبرى له عدد غير قليل من أمهات الصحف وأشهرت عليه حربًا عوانًا، وقذفته بالنقد المر ورمته بامتهان كرامة القضاء والازدراء بأحكامه العادلة وقراراته المقدسة فقال منستر برج في رزانة العالم الحكيم وتؤدة الفيلسوف الحليم (… وقد تلقيت هذه الحملة الشعواء بنفس مطمئنة وصدر رحب لاعتقادي إن الباعث عليها شريف إذ الرأي العام وقتئذٍ كان على أشده من التحمس ضد القاتل وعلى أقصى درجة من التوتر وذلك بسبب كثرة حوادث القتل التي توالى وقوعها وبمنتهى الجراءة والفظاعة في شوارع تشيكاجو وفي كل مرة منها كان يفلت الجاني من العقاب أما وقد وقع ذلك الوغد السفاك في يد العدالة في المرة الأخيرة واعترف بجرمه، فما بال منستر برج يتدخل في الأمر باسم العلم حيث لا سبيل للرحمة والشفقة ولا مفر للجاني الأثيم من فصم عنقه بحبل المشنقة جزاءً وفاقًا على ما قدمت يداه ولا غرابة فإن القوم يعتقدون أن كل تدخل في القضاء بحجة العلم إن هو إلا بدعة وخدعة يراد بها إفلات مجرم أثيم من العقاب وأن هذا تضليل للقضاء وتغرير بالعدالة وتثبيط لهمم رجال الشرطة ونشاطهم بإضاعة ثمرات جهودهم العظيمة سُدى، من أجل ذلك كان للصحف كل العذر فيما كالته لي من اللوم والتقريع فهي لم تفعل غير الواجب عليها للجمهور والسهر على الصالح العام كما أن القضاة الذين تولوا محاكمة الفتى معذورون لأنهم بذلوا أقصى جهودهم لتقرير الحقيقة وتقدير أدلة الاتهام خير تقدير على قدر ما في طاقتهم فلا لوم ولا تثريب إذا ما أخطأوا، فهم ليسوا من ذوي الخبرة بالأمور النفسية حتى أنه لو خامر نفوسهم بعض الشك من حيث قيمة أقوال شهود النفي الذين تطوعوا للشهادة لمصلحة المتهم فإن الإقرار جاء قاطعًا لكل شك وتردد وفيه فصل لكل خطاب).
(ومع كل هذا فإن أمانة العلم توجب على المرء أن يتصدى لذكر الحقيقة بمنتهى الصراحة والجرأة ولذا فإني أكرر هنا على رؤوس الأشهاد أن الرجل المنكود الطالع قاسى آلام الإعدام بحبل المشنقة وهو بريء فكل ظروف الإقرار وأحوال المتهم وظواهره وبواطنه لا تدع مجالاً في نظر الخبير المدقق للشك في خطأ وجهة نظر المحلفين، فالقتل حصل من يد شخص مجهول وليس في مكان الحادث كما زعم الفتى ولكن في مكان بعيد ثم جرت الجثة إلى كوم السماد بذلك السلك النحاسي الذي وجد حول العنق وأن أخلاق الفتى وعاداته على حسبما تبين من أقوال الشهود في خلال التحقيق وصيغة الإقرار وما تضمنه من المناقضات العلمية كل ذلك لم يكن إلا دلائل ناطقة بأن الإقرار صدر من الفتى وعقله في حالة تفكك وانفصال وأن الاعتراف كان صورة طبق الأصل من تلك الاعترافات الموهومة التي تصدر من الشخص وهو في حالة التنويم بتأثير الإيحاء، فحالة الفتى كانت تعد خير مثال لحالة الانفصال العقلي التي تستحيل فيها الخيالات والأوهام إلى حقائق).
فبعد فحص ما وصلني من التفاصيل من نفس التقارير التي تحت يدي فحصًا غاية في الدقة والعناية كتبت في شهر يونيو سنة 1906 خطابي السابق الإشارة إليه والذي أُسيء فهمه وقلت فيه إن الاعتراف كاذب والفتى حُكم عليه بالإعدام لأمر لا يقع منع أصالة وقد صدر الاعتراف منه بتأثير الإيحاء الذاتي – Auto – Suggestion وهو في حالة انفصال عقلي وأنه في حاجة إلى علاج نفسي خاص بعناية واهتمام يرم بناء عقله المفكك ويرجع ذكرياته القديمة إليه ويرده إلى حالته الطبيعية.
ولكن وأنا أقرر رأيي هذا بعقيدة راسخة لا تتزعزع كنت مع ذلك أرى أن سلسلة الوقائع التي أمامي ناقصة بثراء وكنت أشعر أنه لا بد من أنه حادثًا خارجيًا حدث فكان سببًا مباشرًا لإحداث حالة الانفصال العقلي وحمل الفتى على الإقرار فجأة بعد أن كان مصرًا على الإنكار، لأني كنت أعتقد أنه بالرغم من شدة وطأة التحقيق وما عناه المتهم من الضغط في خلال الاستجواب فإنه لم يبلغ الدرجة التي نشأت عنها حالة الانفصال بل لا بد من وقوع حادث فجائي خفي عليَّ أمره أحدث بالغلام صدمة عصبية قوية في خلال التحقيق فكانت سببًا متممًا لذلك الانقلاب النفساني الذي أصابه.
فإنه من عهد قريب جدًا حضرت إليَّ فتاة أصيبت بحالة تفكك عقلي تشبه حالة الغلام وأصبحت تشكو من كثرة ما كان ينتابها من الهواجس والأوهام وقد طرأ عليها هذا الانقلاب النفساني الغريب فجأة وهي تجهل أسبابه كل الجهل فنومتها تنويمًا (مغناطيسيًا) وفي أثناء التنويم وقفت منها على علة هذا العارض الفجائي فإذا به أنها كانت قبله في حالة ضعف وانحطاط في المجموع العصبي فقصدت طبيبها الخاص لاستشارته في أمرها وبينما كان الطبيب يقوم بفحصها وهو على مقربة من إحدى النوافذ إذ انعكست أشعة الشمس فجأة من عدستي نظارته على عينيها فبهرت بصرها وأحست في الحال بأثر الصدمة فذهلت وخيل لها أن عوينتى الطبيب أخذتا تكبران شيئًا فشيئًا حتى بلغتا حدًا من الكبر أصبح معه منظرهما مريعًا ثم غابت بعد ذلك عن صوابها ومن ذلك العهد أصابها ما أصابها من الانفصال العقلي والانقلاب النفساني.
ثم إني لا زلت أذكر حادثًا آخر مماثلاً رواه لي (الدكتور برنس – Dr Prince) وهو بشأن انقلاب أصاب فتاة في أفكارها من حالة غم وحزن شديد إلى حالة فرح زائد وسرور مفرط بغتة ولم تفقه سببه بل كان تشعر أن روحًا غير روحها حلت بها وشخصية غير شخصيتها لبست جسمها فلما نومها الدكتور برنس اتضح له أنها كانت قبل ذلك توجهت إلى الكنيسة وهي في حزن عميق وكانت الكنيسة خالية من الزائرين ولفرط ما أصابها من الغم والكمد أخذت تكلم نفسها وفي خلال ذلك كانت تحدق على غير قصد منها في عامود نحاسي كان يلمع في ضوء الشمس لمعانًا شديدًا فأحست على الأثر بذهول أعقبه انقلاب سريع في جميع أفكارها فتبدلت من حالة حزن شديد وكمد إلى فرح مفرط وسرور فائق وشعرت كأن كل ذكرياتها المفرحة من عهد الطفولة تجمعت وتدفقت في مخيلتها جملة واحدة مع كل ما يتبعها من الانفعالات الشديدة للفرح والسرور.
فإن صح ما للأشعة من خاصية جذب الانتباه هذا الجذب الشديد والتحكم في مدارك الشخص وقواه العقلية كما حدث في المثالين السالفين فإن سبب الانقلاب الفجائي في شخصية الفتى في حادث تشيكاجو أضحى الآن واضحًا وضوح الشمس وذلك أنه عند ما كتبت خطابي للدكتور كريستزون كنت أبديت رغبتي بإلحاح في تنويم الغلام تنويمًا (مغناطيسيًا) لأقف منه على ذلك السبب فلم أوفق وما كنت وقتئذٍ متوقعًا أن تجود عليَّ الطبيعة من تلقاء نفسها في المستقبل القريب بالجواب وهو أن الفتى المسكين صحا من ذهوله بغتة قبل تنفيذ الإعدام فيه ببضعة أيام وعادت إليه حالته الأولى فكتب بيده تقريرًا مفصلاً شرح فيه حاله شرحًا وافيًا وقد نشرته إحدى الجرائد الكبرى التي اشتركت في الحملة عليَّ فصدرت الجريدة صورة التقرير بالتعليق الآتي نصه (قبل تنفيذ حكم الإعدام بستة أيام وضع المتهم تقريرًا كتابيًا أعلن فيه براءته من الجريمة وقرر أنه كان خلي الذهن من أي قرار صدر منه في خلال التحقيق وقال إنه كان حافظًا لمداركه وصوابه حتى أن رأى مسدسًا مصوبًا نحوه ثم غاب عن رشده ولا يذكر ما جرى له بعد ذلك حيث قال في تقريره ما نصه:
(إني رأيت أنبوبة المسدس تلمع لمعانًا شديدًا في ضوء الشمس فشعرت بصدمة الأشعة في عيني ثم أحسست بوجود شخصين فوق رأسي وبعد ذلك غبت عن صوابي ولم أشعر بشيء مطلقًا ولم أستطع أن أميز شخص من كان يحمل المسدس وقتئذٍ غير أني عرفت اسمه أخيرًا من بعض من كانوا حاضرين، وإني لا أذكر عدا هذا شيئًا من وقائع التحقيق ولا أذكر مطلقًا إني اعترفت ولكن إذا كان الكل مجمعون على أني اعترفت فلا بد من أن أكون قد اعترفت غير أني بريء من الجريمة ولا أذكر من وقائع اعترافي حرفًا واحدًا بل من وقت أن أحضروني لمركز الشرطة كنت لا أشعر بوجودي ولا أعي نفسي إلا عند ما جيء بي إلى هذا السجن، أما قبل ذلك فكان كل شيء أمام عيني ظلامًا وغموضًا وإبهامًا، إنما لا زلت أذكر واقعة أخالها حلمًا أو خيالاً في وسط هذا الظلام الحالك وهي إن واحدًا من الضباط قال لي حينما كان يقودني إلى مركز الشرطة أنت فعلت هذا فأحببته إني لم أفعل شيئًا وإني على يقين بأني لم أفعل ولكني لست أدري ماذا جرى لي بعد ذلك ولقد عجبت لتصويب مسدس نحوي في مركز الشرطة ولم أفهم له معنى………. إلخ إلخ)).
ثم استطرد منستر برج الكلام قائلاً:
(فهذا التقرير كان من أقوى البراهين العلمية على براءة الفتى ومن أسطع الأدلة على صدق ما يقول إذ لا يمكن لأضعف العقول أن تتصور أن من كان على حاله من السذاجة والبله يخترع مثل هذه التفصيلات الدقيقة التي تنطبق على ما أظهرته الخبرة الفنية وأحدث التجارب الإكلينيكية (الطبية) في علوم النفس انطباقًا غاية في الدقة والضبط، فقوله – من وقت أن رأيت لمعان أنبوبة المسدس بدا كل شيء لعيني ظلامًا – لم يكن سوى تلك الحلقة المفقودة من سلسلة الأدلة المؤيدة لبراءته، فأنى له أن يعلم أن لمعان السلاح في ضوء الشمس له في أعصابه المضطربة ذلك الأثر الذي أحدثته الأشعة المنعكسة من عدستي نظارة الطبيب ومن عامود الكنيسة النحاسي في الحادثين المتقدم ذكرهما ومن شأنه أن يحدث تبدلاً في الشخصية يحاكي ذلك التبدل الذي أصاب الفتاتين ؟ لا شك أن الفتى عند وضعه التقرير لم يذكر غير الحقيقة كاملة بغير تكلف أو تصنع وكان يستحيل على مثله أن يختلق هذه التفصيلات الفنية الدقيقة التي لا يتسنى لغير خبير حنكته التجارب أن يفقه مرماها، أما الفتى فلا حول له ولا قوة على تلفيق شيء اللهم إلا حكاية ذلك الإقرار المزيف الذي كان في جوهره خليطًا من المتناقضات العلمية والاستحالات العملية، ولقد بذل المدافعون عنه كل جهد لدى المحكمة العليا لإلغاء الحكم أو تعديله فذهبت جهودهم سُدى، وبعد مضي ستة أيام من وضعه لهذا التقرير نُفذ فيه حكم الإعدام).
انتهت هذه المأساة على هذا الشكل المحزن وعانى الفتى المنكود الحظ آلام الشنق لذنب لم يقترنه وذهب ضحية القسوة والجهل، القسوة من جانب المحققين والجهل من جانب القضاة والمحلفين، ولا يحسبن القارئ أن هذا الحادث فريدًا في بابه أو فلتة من فلتات القضاء ونادرة من نوادر القدر ولكن أمثاله من الحوادث تمر في طي الخفاء فلا يقف أحد لها على أثر، والقضاة في هذا كما يقول الأستاذ منستر برج معذورون فعلوم النفس من أحدث العلوم العصرية، وقل أن يتجه نظر المحاكم إلى أهمية استشارة الخبراء الفنيين فيها فضلاً عن ندرتهم أو فقدانهم أصالة كما هي الحال في محاكمنا المصرية.
إن من الإنصاف أن يعترف المرء لرجال القضاء بما يبذلونه من العناية في فحص حالة المتهم العقلية وقت ارتكابه الجريمة لتقدير مسؤوليته الشرعية ولكن قل أن يفكر واحد منهم في ضرورة فحص حالته النفسية وقت المحاكمة أو في خلال التحقيق وتحليلها تحليلاً علميًا فإن أقصى ما يذهبون إليه في تقدير موقف المتهم أن يؤخذ رأى الطبيب في أهو عاقل أم مجنون، فإذا لم تظهر عليه أعراض الجنون عدوة مسؤولاً عن كل ما يقول ومؤاخذ بمقتضاه، فبمثل هذا المقياس الناقص تقاس الظواهر النفسية في دور القضاء وليس في مصر وحدها ربما كان ذلك في أرقى بلاد العالم أيضًا حيث يكون القول الفصل في مسألة من أدق المسائل النفسية وأعقدها لأشخاص لم يفتحوا في علم النفس كتابًا ولم يقرأوا فيه حرفًا واحدًا فيقنعون في تقدير الأمور عند الفصل في أرواح الناس وأعناقهم بما يسمى اصطلاحًا (بالذوق السليم) أو يركنون في ذلك إلى قشور جوفاء ومبادئ فاسدة من علم النفس العامي ويعتبرون في نظرهم أن كل عقل لم تظهر عليه أعراض الجنون يكون في حرز أمين من عبث المؤثرات ولا تلعب به الأهواء والأغراض ولا يكون عرضة للتقلبات وتأثير الانفعالات، ولكن إذا ما تمشينا معهم وجاريناهم في تحكيم الذوق السليم في شؤون العقل البشرى أو رجعنا إلى مبادئ المنطق الأولية والحكم على الأمور من طريق القياس الصحيح نرى بعد قليل من التأمل أنه يندر ألا يتأثر عقل بموقف من المواقف وخصوصًا إذا كان موقفًا مشهودًا مرهوبًا كموقف المحاكمة أو الشهادة أمام القضاء وقل أن يؤدى العقل وظيفته من حيث الإدراك والفهم والتصور والتفكير والتأمل والذكر والانتباه والتقدير والإرادة وغيرها من ملكات العقل بنفس الطمأنينة وهدوء البال الذين يكون فيهما الإنسان في حياته العادية، أليست أعمال كل منا وحركاته في الخلوة تختلف عنها في وسط الجماعة ؟ ومتى اتفقنا في معرض الجدل على تحكيم الذوق السليم فلا أجده خروجًا عن الموضوع إذا ما ضربت لذلك مثلاً بما أشاهده في نفسي عند توقيع بعض القطع الموسيقية ولا سيما ما كان منها من المحفوظات الجديدة فإني إذا ما حفظتها عن ظهر قلب وقعتها في الخلوة توقيعًا غاية في الدقة والإتقان ولكن إذا ما طلب مني توقيعها على مشهد من بعض الزائرين والإخوان ظهرت في نبرات التوقيع آثار الانفعال وارتبكت أناملي وارتعشت وكثيرًا ما أسرعت في الضرب سرعة غير مشكورة وربما خانتني الذاكرة فتوقف دولابها فجأة عن العمل ونسيت منها بعض الأنغام فاستعيض عنها بغريب اللحن من عندي رتقًا للفتق ورأبًا للصدع حتى لا تبدو أوزان النغمات للسامعين ناقصة بثراء بل اتفق لي في بعض الأحيان أن خرجت من منتصف القطعة ودخلت في قطعة أخرى غير التي بدأتها وكثيرًا ما تقع مني في خلال التوقيع الغلطة تلو الغلطة وزلة الإصبع تلو الزلة وأجدني كلما أخطأت ازددت ارتباكًا وانفعالاً وتماديت في الغلط على الرغم مني، فإذا ما انصرف الحاضرون وجلست أحاسب ذاكرتي على زلاتها وأعدت توقيع القطعة نفسها في الخلوة وجدتني أوقعها في منتهى الدقة والإتقان وبغير لحن أو هفوة بنان، ولا أظن هذه الحالة مقصورة عليَّ دون سواي أو أنها تدل على ضعف في النفس غير طبعي وخاص بي وحدي ولكن علتها اشتعال ملكة الانتباه بالحاضرين وتحولها نحوهم وخوف الخطأ في حضرتهم فهي عامة لدى كل هواة الموسيقى وخصوصًا من كان منهم لا يألف التوقيع إلا في العزلة، وقد شكا إليَّ منها الكثيرون بل أغرب من هذا أني خبرت نفسي حال توقيع إحدى القطع في الخلوة بأن تخيلت وجودي في حضرة جماعة من الناس فوجدت أناملي في الحال أخطأت مواضع النغم وبدت مني بعض الأغلاط فلما طردت هذا الخاطر عن خيالي وحصرت فكري في عزلتي وانفرادي عادت إلى نفسي طمأنينتها وإلى عضلات أصابعي قوتها ومتانتها وإلى أطراف أناملي دقتها.
فإذا كان هذا مبلغ الفرق في حالتي النفسية في خلوتي وفى حضرة جمع من أصدقائي وأقراني تلقاء توقيع بعض المحفوظات الموسيقية التي لم يقصد منها غير اللهو والرياضة النفسية فماذا يكون حال المتهم البريء وهو في قفص الاتهام وسيف القضاء معلق فوق رأسه بخيط واه فإذا ما هزته ريح الأقدار هوى وانقض عليه كصاعقة من نار ؟ أو ماذا يكون موقف الشاهد بين يدي هيئة القضاء في جلسة علنية تحفها المظاهر الرسمية والهيبة من كل جانب وكل ما فيها يبعث في النفس أثرًا عميقًا من الرهبة والجلال، أليس هؤلاء أدق موقفًا وأحرج مركزًا ونفوسهم أشد اضطرابًا وتأثرًا ؟ هل إذا أخطأ المتهم أو الشاهد أو تلعثم أحدهما عند سرد بعض الوقائع لا يكون معذورًا ؟ وهل إذا ازداد بسبب ذلك اضطرابه وارتباكه فخانته ذاكرته ونضبت مواهب عقله كما ينضب لعابه فاستعصى عليه فهم الحقائق واختلط عليه الأمر وخلط في القول بين وقائع حادث وحادث لا يعد معذورًا كل العذر ما دام موقف القضاء الرهيب أدق وأبلغ في النفس أثرًا من موقفي بمحفوظاتي الموسيقية إزاء نخبة من أحبائي وأصدقائي ؟ ولكن قل أن يقام لهذه الأمور وزن أو تعار أي التفات في دور القضاء فكم من أحكام عدت مجرد ارتباك المتهم في الدفاع أسطع برهان على الإدانة واعتبرت اضطراب الشاهد أقوى دليل على الكذب والاختلاق متغافلة بذلك عن كل ما يؤثر في النفوس من العوامل والمؤثرات وما ينتابها من الانفعالات.
إذا كان بحث عقلية المتهم عن طريق القياس والمنطق والذوق السليم قد أظهر لنا بونًا عظيمًا بين الحالات النفسية للشخص الواحد في المواقف المختلفة فما بالنا لا نسلم بهذه النتائج التي توصل سوانا إليها بعد أبحاث طويلة أجريت تحت أشعة قوية من ضوء العلم الصحيح ؟
إن كلمتي مجنون وعاقل على ما بينهما من التباين العظيم في الدلالة والتناقض في المعنى قد أثبت العلم أن لا فواصل بينهما ولا حدود طبيعية تفصل بين مناطق العقل والجنون وأني لا أجسر على القول ولو عد هذا من مثلي جرأة على العلم أنه قل أن يخلو عقل بشري من بعض ظواهر الجنون الحاد من جانب والنقص العقلي أو الضعف العقلي من الجانب الآخر (فالكمال لله وحده جل شأنه)، ولكن درجتهما تختلف باختلاف الأفراد وباختلاف الظروف والحالات، ألم يبدأ الإنسان حياته في هذا العالم بنقص في العقل يشبه الجنون ثم يختمها كذلك مجنونًا أو شبه مجنون وما ذلك إلا بسبب ما يكون عليه من ضعف الإرادة في عهدي الطفولة والشيخوخة ؟ أليست أحلام النائم وتخيلاته وتأملاته واختلاط أفكاره وغرابتها قريبة الشبه للكثير من ظواهر الجنون ؟ وهل يبقى بعد هذا مجال للعجب إذا ما قيل إن العقل كآلة دقيقة سهلة العطب قد يعتريها الخلل لأقل المؤثرات وفى كثير من الأحيان قد تبقى آثار الاختلال غير محسوسة في الظاهر بينما هي تعمل عملها في الباطن فيعد صاحبها عاقلاً بالنظر لأفعاله وحركاته الخارجية في حين أنه مريض الفكر غير صحيح العقل في تصوراته وتأملاته وتخيلاته ؟ ولا يكشف ذلك إلا العالم المحقق والأخصائي المدقق بطريق الفحص والتحليل، وإني أكرر القول هنا إنه قل أن يخلو عقل من وجود ظاهرتين متباينتين من ظواهر الاختلال العقلي إحداهما من النوع (الهستيري)، والثانية من النوع (النوارستاني) ولو بشكل مخفف، فالأولى تدفع الإنسان إلى النشاط في الحياة والجد في العمل فإذا ما قويت دفعته إلى الإفراط والتهور وعند ما تكون على أشدها تؤول به إلى التهيج وإيقاع الأذى بالغير وارتكاب القتل، والثانية تدعوه إلى الرزانة والروية والحكمة وحب العزلة والهدوء والسكون والفكر العميق فإذا ما قويت أدت به إلى الفكر الدائم والقلق، فإذا ما أصبحت على أشدها واستفحل داؤها قد تؤول به إلى (الملانخوليا) فالانتحار، ولقد ذهب العلامة (يونج Jung) أستاذ علم النفس بجامعة زيوريخ ومن أئمة العالم في الوقت الحاضر إلى تقسيم البشر من الوجهة النفسية قسمين رئيسيين أحدهما سماه (بالاكسترافرت – Extravert)، والثاني (بالانتروفرت – Entrovert) ومعناهما حرفيًا المنقلب للظاهر، والمنقلب للداخل، ويمكن تلقيبهما مع بعض التسامح بالنوع (المنبسط)، والنوع (المنقبض) والنوع الأول يحفل بشؤون الحياة الظاهرية وتجذبه مظاهرها إليها يحب المعاشرة فهو كثير الاختلاط بالناس ويألف المجتمعات، والنوع الثاني لا يعبأ بمظاهر الحياة الخارجية لا تجذبه الأشياء بل يجذبها إليه ويحب العزلة ويميل إلى الاعتكاف عن الناس، والنوع الأول يكون عرضة (للهستريا) أما الثاني فعرضة (للنوارستانيا) ولم يقل الأستاذ يونج إن كل نوع قد اختص بإحدى الظاهرتين دون الأخرى ولكن كلتيهما كامنتان في الشخص وإنما تغلب إحداهما على الثانية هو المرجع في هذا التقسيم العظيم (انظر كتابه أنواع البشر من الوجهة النفسية – Paychological Types طبعة سنة 1924 صحيفة 412) فكلتا الظاهرتين في نهايتهما القصوى متضادتان من حيث النتائج فالهستيريا تنتهي بقتل الغير والنوارستانيا بالانتحار والأولى قد تنتهي بالجنون الحاد والثانية قد تنتهي بالبله والعته، ولكن لا يروا عن ذلك حضرات القراء فليس في وجودهما بدرجة خفيفة متعادلة من خطر أو ضرر على المواهب الفكرية بل ربما كان وجودهما معًا فيه حفظ لتوازن العقل وصيانة لملكاته ومواهبه فإنهما تكونان من العقل السليم بمثابة القطبين السالب والموجب كل منهما يجذب العقل لناحيته فيحصل التوازن وينجو من خطر الانحراف إلى ناحية دون الأخرى، فإذا ما رجحت كفة إحدى الظاهرتين على الثانية رجحانًا يسيرًا قد تظهر في العقل دلائل النبوغ والتفوق أما بالذكاء الحاد من جانب وأما بالرزانة والحكمة من الجانب الآخر، أما لو تغلبت إحداهما على الأخرى تغلبًا شديدًا فإنه يختل التوازن العقلي اختلالاً كبيرًا وتبدو أعراض الجنون الحاد من ناحية أو أعراض العته والبله والانحطاط الفكري من الناحية الأخرى حتى اعتبر بعض العلماء النبوغ مرضًا من أمراض العقل، ومن بين هؤلاء العالم الشهير لمبروزو ولا يزال هذا الأمر موضوع جدل ومناقضة بين أطباء الأمراض العقلية حتى اليوم [(1)] وسواء صح هذا الرأي أم ذلك فالنبوغ ليس حالة طبيعية في العقل بل بروز شاذ في بعض ملكات العقل، وكم من مجانين كانوا نوابغ العلوم وأبطال الفنون وقد قال الأقدمون (ومن فرط الذكاء يأتي الجنون)، ونحن نقول (إن العقل الموزون هو ما كان وسطًا بين البله والجنون).
فعناصر الجنون كامنة في كل عقل ولكنها في العقل السليم محجوبة عن الظهور بطبقة من الإرادة ولكنها طبقة رقيقة سهلة العطب والتشقق، ولعل هذا ما حدا بالعلامة (سجمند فرويد – Sigmand Freud) أشهر علماء هذا العصر في علم النفس المرضي إلى القول (بأننا نسير فوق قشرة رقيقة من طبقات العقل السليم على سطح كرة تشتعل بالجنون)، فمن أجل ذلك كان العقل عرضة لهزات عنيفة من الزلازل النفسية أو لتفجر البراكين، فالحد الفاصل بين العقل والجنون غير موجود كما يقول الأستاذ بلويلر في كتابه علاج الأمراض العقلية صـ 171 تحت باب حدود الجنون ما نصه:
(Nowhere is the question ‘sick or not sick ? put so often in such an inexorable maner and with such heavy consequences as in the judgement of mental conditions. But the given question is false, There are no borderlines of insanity).
وتعريبها (إن ذلك السؤال الذي يوجه دائمًا أبدًا بتلك الصيغة الثابتة التي لا تتغير وهو (أزيد من الناس مريض أو غير مريض ؟) لم يكن يومًا أشد خطورة وأوخم عاقبة منه عند تقرير أمر من الأمور العقلية في المسائل الشرعية فما أبعد سؤالاً كهذا عن جادة الحق والصواب إذ ليس للجنون حدود تفصله عن نطاق العقل السليم).
ولقد شبه علماء النفس الأمراض العقلية أعراض الجنون بالصور الهزلية (الكاريكاتورة) للعقل السليم التي يكون فيها الشبه محفوظًا ولكن النسبة في الأعضاء أو التقاطيع هي المفقودة كما لو رسمت الأنف أو البطن في حالة ضخامة هائلة فتفقد هذه الأعضاء نسبتها لباقي الجسد وتبدو الصورة مضحكة من غير حاجة لإضافة أعضاء جديدة ليس لها أصل في الطبيعة، كذلك الأمراض العقلية فإنها لا تخرج عن كونها مجرد بروز في بعض الظواهر العقلية بنسبة تفوق الحد الطبعي أو ضمور في البعض الآخر تضيع معه تلك النسبة فتفقد ملكات العقل تناسبها ويحل بالعقل الخلل وفقدان التوازن وتبرز الصورة الهزلية للعقل في شكل الجنون، والواقع أن كل ما تضمه مستشفيات المجاذيب بين جدرانها من العاهات والأمراض العقلية مؤلف من نفس العناصر التي تتألف منها مجموعة المواهب الفكرية في العقول (المعتبرة في حكم السليمة) التي في خارج المستشفيات لا جديد فيها، وكما أن للعقل درجات كذلك للجنون درجات، وقد تبدأ درجات الجنون قبل أن تنتهي درجات العقل بمراحل.
فالحد الفاصل بين المسؤولية الشرعية وعدم المسؤولية ليس في الحقيقة الجنون أو العقل وإنما العبرة في ذلك بالأحوال النفسية والظواهر العقلية سواء عدت في مناطق العقل السليم أم في مناطق العقل المريض إذ أن أسباب الانقلابات النفسية وتغير الشخصية كثيرة لا تعد ولا تحصى وهي تبدأ بدرجات خفيفة ثم تسير من حيث الشدة في ميدان فسيح من العقل الصحيح خطوات متتاليات حتى تصل بالنفس إلى شخصية جديدة تفني فيها الشخصية القديمة فناءً تامًا هي وما يتبعها من الذكريات والمشاعر والأفكار ومع هذا قد لا تبدو لمن في الخارج أعراض تدل على هذا الانقلاب الداخلي العظيم ويبقى في النفس سرًا مكنونًا، والأستاذ بلوير يقول في كتابه علاج الأمراض العقلية صفحة 171 (أن هناك من مرضى النفوس من ليسوا بمجانين ولكن تنتابهم حالات نفسية يفقدون معها كل قدرة على التفكير والتأمل، فأمثال هؤلاء لا يسألون عما يقولون ويفعلون) [(2)].
فمن منا لا يشعر بتغيير في نفسيته وشخصيته ولو تغييرًا طفيفًا بتغير الظروف فتلبس نفسه لكل ظرف شخصية جديدة تتغير فيها أفكاره وذكرياته ومشاعره ومع ذلك يبقى التغيير باطنيًا غير محسوس في الظاهر لأحد، وهل شخصية الإنسان شيء سوى مجموعة أفكاره وذكرياته ومشاعره فإذا ما تغيرت تغيرت معها شخصيته ؟ أليس القاضي وهو على منصة القضاء في قاعة الجلسة له شخصية بما يتبعها من أفكار وذكريات ومشاعر تختلف كل الاختلاف عن شخصيته وهو في منزله بين أهله وعشيرته ؟ أليست شخصية الإنسان في المواقف الرسمية أو السياسية غيرها في حياته المنزلية ؟ أليس المحامي في مكتبه والطبيب في عيادته والمعلم في فصله والموظف في مصلحته كل منهم يكون ذا شخصية تخالف شخصيته في الخارج ؟ أليس لكل منا في المجتمعات العامة شخصية تختلف عنها في الخلوة ؟ ألم يكن سبب هذا التنقل من شخصية لأخرى راجع في الواقع إلى تغيير في مجموعة الأفكار والذكريات والمشاعر التي تحيط بالإنسان تبعًا لما يحيط به من الظروف ؟
إذا كان هذا مبلغ حالنا في الحياة العادية فما بالنا لا نعترف للمتهم بشخصية جديدة تنتابه عندما يلقى به في غياهب السجن ويجد نفسه بعد العز في ذل وبعد الحرية في أسر وقد أصبح في سجنه فريدًا يتخبط في لجج من الهواجس والأوهام وتحيط به مجموعة من الأفكار والذكريات والمشاعر تختلف كل الاختلاف عما كان يحيط به في حياته العادية.
ومع هذا فشتان بين تلك الشخصية الجديدة التي تنتاب ذلك المسجون الحديث العهد بالسجون وبين تلك الشخصيات التي كان يتقلب فيها في حياته العملية وينتقل بينها من آنٍ لآخر محتفظًا بجوهر عقله ونواة شخصيته بفضل ما له من إرادة يصون بها ما بين شخصياته المختلفة وبين نفسه من صلات وما يربط بين ماضيه وحاضره من الذكريات، ولكن إذا ما اعترى الإرادة وهن أو ضعف انحلت تلك الروابط وانفصل الماضي عن الحاضر انفصالاً تامًا ربما لا يكون بعده اتصال ونسي الإنسان ماضيه مع كل ما يتبعه من أفكار ومشاعر وذكريات وهو ما عبر عنه العلماء (بفقدان الذاكرة – Amnesia) وتحل بالعقل ظاهرة (الانفصال – Dissociation of mind) ويعتري الشخصية تبدل تام، وقد مر بنا ما لموقف الاتهام من الأثر في بعض النفوس وما يحدثه الرعب والذعر من الصدمة العصبية التي تصرع الإرادة فتترك العقل منحل الروابط مفكك الأوصال.
هل يحق لنا بعد كل هذا أن نقول ما دام الشخص لم تظهر عليه أعراض الجنون فهو مسؤول عن كل ما يقول ومؤاخذ بكل ما يصدر منه من الإقرارات والاعترافات من غير بحث وتعليل أو تمحيص وتحليل اعتمادًا على أن العقل السليم في أمان من الخلل ومأمن من الزلل ؟ كلا ثم كلا، فالاضطرابات النفسية قل أن يخلو منها عقل مهما بدت للناس سلامته وظهرت للملأ حصافته فهناك من العوامل النفسية ما هو أبعد أثرًا في النفوس من الأمراض والعاهات وأشد فعلاً في العقول من السموم والمخدرات، وفي مقدمة الجميع عوامل الخوف والرعب كما تبين للقارئ مما مر به من الحوادث والأمثال.
فالخوف معروف قديمًا وحديثًا أنه عامل من أقوى العوامل التي تضعف الإرادة وتشل مفعولها، ولهذا كان من أوجب الواجبات على المحققين قضائيين كانوا أو إداريين أن يتجنبوا في خلال التحقيق كل ما من شأنه إرهاب المتهم وإرعابه خصوصًا إذا كان الجرم خطير الشأن أو كان المتهم من ذوي الأمزجة العصبية أو قوي الحساسية أو متصفًا بضعف الإرادة فحسبه خطورة موقف الاتهام فهو وحده كافٍ لأن يفل من عزمه ويهد من قواه حتى أن هناك أفرادًا يفقدون كل ما لهم من قوة عزم وإرادة لمجرد وقوفهم موقف الاتهام، فإن لمثل هذه المواقف في بعض النفوس صدمة بلغ من شدتها أن شبهها العلامة مكدوجال بالصدمة العصبية المعروفة باسم صدمة القنابل التي تصيب المجاهدين في ميدان القتال حيث قال في مؤلفه (مبادئ عامة في علم النفس – An Out Line of Psychology )
صحيفة نمرة 443 سطر 7 ما نصه:
(The loss of will power that necessarly follows a severe blow to a man’s self – respcct was one of the striking features of the so called shell – shock cases so frequently in the War)
وتعريب ذلك: (إن حالة فقد قوة الإرادة أن تكون نتيجة لازمة لصدمة شديدة تصيب الشخص في كرامته واعتباره هي بعينها إحدى الظواهر النفسية التي تنشأ عن تلك الصدمة العصبية المعروفة باسم صدمة القنابل التي تصيب المجاهدين في ميدان القتال).
فإذا كان هذا مبلغ تأثير موقف الاتهام في بعض النفوس مجردًا عن أي اعتبار آخر فماذا يكون من أمر المتهم إذا تعرض فوق ذلك لأقسى أنواع التعذيب والإرهاب وسوء المعاملة في خلال التحقيق وفي أثناء الاستجواب ؟ وأي ضمير حي بعد هذا وأي وجدان سليم يسعه الوقوف جامدًا بإزاء أساليب القسوة الوحشية والطرق الجهنمية التي يلجأ إليها بعض المحققين لحمل أشخاص قد يكونون أبرياء على الإقرار وقد أصبحوا في موقف من حيث ضعف الإرادة بسبب الاتهام أسوأ من موقف طفلتي الصغيرة إزاء موقد النار ؟. وأي قيمة لإقرار يكون وليد الضغط وسوء المعاملة، وكيف تطمئن النفس لصحته وترتاح للأخذ به ؟ وها هو ذا تاريخ القضاء مملوء بحوادث الاعترافات الكاذبة التي لم يعترف أصحابها إلا فرارًا من الألم وتخلصًا من العذاب، فمن هذه الحوادث أن اعترف بعض المتهمين بجرائم لم تقع منهم بسبب تركهم وقوفًا في خلال استجواب طويل شاق فأقروا حيث أعياهم التعب وأعوزهم الرقاد [(3)]، واعترفت امرأة على نفسها كذبًا بسبب وضع فأر في غرفة سجنها لفرط ما أصابها من الخوف والجذع، فأي قسوة شيطانية أفظع من هذا ؟ بل أي شيء أفظع من إرهاب شخص بالإعدام وإزعاجه بين لحظة وأخرى بالشنق وهو في حالة اضطراب عقلي وفزع ؟ أليست كلها صدمات قوية يتخلخل لها بناء العقل ويفقد تماسكه فينهار ويصبح أنقاضًا تبنى عليها بتأثير التهديد والوعيد شخصية جديدة تقوم بوظيفة الإقرار الموهوم واعتناق الجرم المزعوم ؟ ألم تكن ملكة التمييز في العقل السليم ترجع إلى نوع من الإرادة فإذا ما أضعفت قوة الإرادة بإجهاد المجموع العصبي فقدت من العقل قوة التمييز فيختلط عليه الماضي والحاضر ويخلط بين الحقائق والأوهام ؟
إن كان فيما أقول شك فإلى القارئ نص ما قاله الأستاذ منستر برج في هذا الصدد في مؤلفه (على منصة الشهادة) صفحة 75 سطر 2.
(Under pain and fear a man may make any admission which will relieve his suffering، and still more misleading, his mind may lose the power to discriminate illusion and real memory).
وتعريب ذلك (إن المرء قد يلجأ تحت ضغط الألم أو تأثير الخوف إلى إقرار ينقذه من الألم أو الخوف، ولكن هناك أمرًا أشد خطورة من هذا وهو أن العقل قد يفقد بتأثيرهما مقدرته على التمييز بين الحقيقة والخيال).
ولهذا كان من أقدس الواجبات أيضًا على القاضي أن يبحث في ظروف الإقرار ويتبين أهو مؤيد بأدلة حسية تنفي كل شك في صحته أم لا، إنما تجب التفرقة بين الأدلة الصحيحة والقرائن التافهة التي لا تخرج عن مجرد شبه وظنون، فإن هذه لا قيمة لها بجانب الإقرار إذ فضلاً عن كونها لا تنفي احتمال كذبة قد تكون هي الباعث إليه والدوافع الأقوى لخلقه كما حصل في حادث الأخوين اللذين اعترفا بقتل صهرهما الغائب، فإذا ما للقاضي تجرد الإقرار مما يعززه من الأدلة والبراهين وجب عليه أن لا يقبل الإقرار قضية مسلمًا بها ولو خالف بذلك نص المادة (134) من قانون تحقيق الجنايات التي تقضي عليه أن يحكم في الدعوى بمجرد الإقرار بغير مرافعة ولا مناقشة، وحذار أن تغرنه القواعد الشرعية الخلابة (إن الإقرار سلطان الأدلة)، أو (إن الإقرار حجة على المقر)، أو (إن المقر مؤاخذ بإقراره) بل عليه أن يمعن النظر مليًا في وقائع الإقرار وظروفه والعوامل التي أثرت في نفس المتهم وحملته على الإقرار فإن استعصى عليها فهمها أو تسرب إلى نفسه أقل شك وجب عليه أن يستعين برأي خبير، ولكن أني لقضاتنا ذلك وليس مع الأسف الشديد لقضائنا خبراء في علوم النفس أخصائيون بل ربما كانوا مفقودين من هذه الديار أصالة فحبذا لو عنيت حكومة البلاد بالأمر وإعارته جانبًا من اهتمامها وأحضرت من الخارج بعض الخبراء الفنيين حتى يتسنى للقضاة عند الحاجة استشارتهم في كل ما له مساس بالقانون من شؤون العقل، وأنه ليكون من دواعي الفخر العظيم لقضائنا المصري أن يسبق قضاء العالم المتمدين أجمع في اتباع ما أشار به المؤتمر الدولي للسجون في جلسته الختامية التي تضمنت قرارًا يحتم على الذين يرشحون للقضاء أن يحضروا دروسًا في علم النفس والاجتماع وأن يلم القضاة بحالة السجون إلمامًا تامًا ويقفوا على أخلاق المجرمين ويدخل في قضائنا نظام يوجب على رجال الحقوق دراسة علم النفس بجانب دراسة القانون درسًا وافيًا يكفل لهم الاستفادة منه في الحياة العملية وتطبيق أحدث نظرياته في المسائل الشرعية، فبغير هذا لا يتسنى لقضاء أي دولة في العالم أن يكفل تحقيق العدالة على أكمل وجه ويضمن حماية الأبرياء من الوقوع ضحية الجهل بشؤون العقل فإن عقل الإنسان آلة في منتهى الدقة وغاية في التعقيد شديدة التأثر سريعة العطب وهو موطن الفكر ومصدر لكل قول وفعل وأنه لمن أعجب الأمور أن يتصدى لإصلاح العقل من لا دراية له بتركيب العقل بل ربما كان لا يفقه معناه، وكيف من كان هذا حاله يرجى منه إصلاح أو يؤمن شر وقوعه في الخطأ والزلل، إن الأمر ليس بالهين اليسير بل هو من الخطورة بمكان عظيم بحيث لا يصح التسامح أو غض النظر عنه، فإن أرواح الأبرياء معلقة في أعناق القضاة والمحققين وهي أمانة الله استودعها إياهم بحكم ولا يتهم على الناس فهم مسؤولون عنها أمام الله يوم الدين.
المصدر: مجلة المحاماة – العدد الثامن. السنة السادسة – عدد مايو. مصر
[(1)] انظر بحث هذا الموضوع بحثًا لذيذًا في كتاب علاج الأمراض العقلية للعلامة بلوير الألماني صحيفة 171 سطر 20.
Text Book of Psychiatry, by Prot – Dr Bleuler
[(2)] انظر كذلك كتاب الطب الشرعي للدكتورين سدني سميت وعبد الحميد عامر بك حيث جاء بالصحيفة نمرة 461 تحت باب الجنون ما نصه (ويجب ملاحظة أنه قد يكون هناك اختلال بالعقل بدون وجود جنون حقيقي وذلك في الأحوال التي يحس فيها الشخص باختلال شعوره ولو كان ذلك الاختلال عنيفًا لدرجة لا يمكن منعها للمراكز العليا ضبطه كما هي الحال في ملازمة الأفكار (Obssessions)).
[(3)] كما حصل في المحاكمات المعروفة في تاريخ نيو انجلاند بمحاكمات سحرة قرية سالم بمقاطعة مستشوستس بالولايات المتحدة عام 1692.
التعليقات
اترك تعليقا